أخبار الإنترنت
recent

فلسفة الجغرافيا



فلسفة الجغرافيا 

الاستاذ الدكتور فراس عبد الجبار الربيعي 

من المعلوم ان لكل علم تخصص وحقل معين يعمل ضمنه ويفكر في نطاقه الا ان التفكير في ذات العلم نفسه هو من اختصاص فلسفة العلوم التي هي احد فروع علم الفلسفة  المتخصصة بالبحث في منهج العلم وخصائصه العلمية ،وقد ازدهرت فلسفة العلم في النصف الاول من القرن التاسع عشر [1]،وفي الحقيقة ان فلسفة العلم هي سلسة من النظريات المرتبطة معا في سياق برامج بحث علمي وهي ليست ممارسة العلم بحد ذاته كمعرفة بل مناقشة معارف العلم ومناهجه ونتائجه [2].

وللخوض في فلسفة الجغرافية فانه لابد من استقراء تاريخها ومنهجيتها ونظريتها المعرفية بشكل دقيق ،  فقد   نشا التفكير الجغرافي مع نشاة الانسان بشكل عفوي كنتيجة لتامل البيئة الطبيعية المحيطة به وساد التفكير الغيبي في هذه المرحلة حيث بدا الانسان ينسب الظواهر الطبيعية الى القوة الخفية ويسمي الالهه بأسماء هذه الظواهر مثل الهة المطر واله الخصب والهة النماء والخ اي ان الجانب الديني كان غالبا في تفسير الظواهر الطبيعية الى جانب التأثير الثقافي للبيئة الذي انعكس بشكل كبير  على التفكير الجغرافي العفوي فسكان بلاد الرافدين كانت بيئتهم تتسم بالخصب ووفرة المياه فانصرفوا الى ملاحظة الظواهر الفلكية ومواسم الزراعة اما المصريين فانشغلوا بفيضانات نهر النيل ومواسمها واضرارها واستمر الجانب الغيبي يسيطر على الافكار الجغرافية حتى بعد ان وضع الاغريق الاسس الاولى لهذا العلم حيث ظهر كتاب العالم الروماني بليني ملئ بالخرافات والاساطير الدينية

وقد ساهم هذا النمط من التفكير في محاربة الافكار العلمية الجديدة في الجغرافيا وتحول الى رفض للحقائق العلمية الحديثة حيث ان طبقة من رجال الدين والكهنة استفادت من هذه الافكار لترويج وتسويق القدرة الخفية للألهه الوضعية اذ واجهت العالمة هيباسا مصيرها المحتوم بالموت جراء التعذيب على يد الكهنة[3] ولاقت افكار كوبر نيكوس في كتابه الشهير دوران الكواكب السماوية عام 1543 م الذي اثبت فيه ان الارض ليست مركز الكون وانها ليست ثابتة وان الشمس هي المركز الذي تدور حوله الكواكب معارضه شديدة من الكنيسة التي اعتبرتها كفرا بما ورد في الكتب المقدسة وهذا ما دعا اللاهوتي اندروا وسياندر الى استغلال فترة مرض كوبر نيكوس الذي كان على فراش الموت في وقت طبع الكتاب ليقوم بوضع مقدمة للكتاب صور فيها للقارئ ان اراء كوبرنيكوس هي مجرد افتراضات ووجهات نظر ولكن افكار كوبر نيكوس شاعت بين الناس وانتشر الكتاب مما دعا محاكم التفتيش الى مطاردة حاملي الكتاب دون جدوى فاعتبرت  اراء كوبر نيكوس نهاية العلم القديم وبداية ثورة علمية حقيقية .[4]

ولم تكن المدرسة الحتمية في القرن الثامن عشر الى مدرسة قدرية ذات بعد ديني كونها تؤمن بان الطبيعة والقوى الخفية تسيطر على افعال الانسان وتحكم معدلات ذكاؤه وقدراته الحضارية وتستند في ذلك على نقطتين جوهريتين :

1-المبدا الانطولوجي (الوجودي) اي ان نظام الكون مطرد وثابت وشامل لايشذ منه شي في اي زمان ومكان اي ان الحدث هو نتيجة لما سبق وسبب لما سيحدث.

2- المبدا الابستمولوجي (المعرفي ) اي عمومية قوانين الكون وثبوتها واطرادها ويقينها  في الوقت ذاته وكانت تعتبر ركيزة للعلم الحديث وانها المعبر الوحيد المفضي الى العلم الحقيقي[5]

وقد سادت مبادئ المدرسة الحتمية (Determinism) في ذلك الوقت  وهيمنت على العلوم كافة وامن بها كارل ريتر وهمبولدت ومن خلفهم راتزل ونقلوا مبادئها الى الجغرافية حتى نسبت اليهم .

الفلسفة التنويرية والجغرافيا

ازدهرت الفلسفة التنويرية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في المانيا وفرنسا وهي فلسفة تؤمن بقدرة العقل البشري على التعامل مع الكون وفك طلاسمه وقد انتشرت في فرنسا بشكل كبير بزعامة دينيس ديدرو(1713-1784)م الذي ايده العالم الرياضي دالامبير صاحب الموسوعة الفرنسية الاولى عام 1751م والتي هاجم فيها الميتافيزيقيا والدين في الجانب العلمي[6] وسرعان ما امن دي لابلاش بالافكار التنويرية فوضع مبادئ المدرسة الامكانية(school possibility) في الجغرافية التي تعاكس المدرسة الحتمية وترى ان الانسان عنصر جغرافي يؤثر ويتاثر وليس خاضعا للطبيعة  بشكل كلي أي انها تعتبر الانسان عامل جغرافي يساهم بدور كبير في تعديل البيئة التي لم تعد وقفا على المظهر الطبيعي  بل صارت مظهرا حضاريا[7]  فكانت اراء لابلاش  خروجا عن تاثير العامل الديني على التفكير الجغرافي لاول مرة وبداية مرحلة جديدة من الاندماج مع النهضة العلمية التي سادت اعتبارا من القرن الثامن عشر .

جوهر الجغرافيا ونظريتها المعرفية


من خلال استعراض تاريخ الجغرافية وبدايات التفكير العفوي فانه يمكن القول ان الجغرافية الطبيعية نشات قبل الجغرافية البشرية الا انه ومع مرور الوقت فان الجغرافية البشرية اصبحت لاتقل اهمية عن الجغرافية الطبيعية فالظاهرة الجغرافية (عبارة عن نسق مركب من مجموعة مترابطة من الظاهرات الطبيعية والبشرية في اطار من التفاعل المنظم)،والمكان الذي هو المادة الخام لدراسة الجغرافية ليس كيانا ساكنا بل انه بيئة تعج بالتفاعلات بين العناصر الطبيعية والبشرية لذا فان اغفال أي من العنصرين الطبيعي ةالبشري يعني ان دراسة الظاهرة الجغرافية ستبقى غير مكتملة  وعليه فان الجغرافي علم تكاملي يمتد بين العلوم الطبيعية والبشرية
فضلا عن البعد الثالث الا وهو العامل الزمني ،ان المعرفة الجغرافية تستمد وجودها من العلوم الاجتماعية والطبيعية لتحليل المكان وبالتالي منحه الشخصية الاقليمية ولاينكر في هذا الصدد ان تطور العلوم مثل الفيزاء والكيمياء والرياضيات وتبعها في مرحلة لاحقة علوم الفضاء والحاسوب قد اظهر حقائق جديدة عن الارض استفادت منها الجغرافية في توسيع مداها العلمي والدليل على ذلك ان فروع الجغرافية ظهرت بالتتابع حتى وصلت الى 73 فرعا وهذا الترابط بين المكان والعلوم الاخرى  لايعني ذلك ان الجغرافية متطفلة على بقية العلوم لكنها تستفاد من هذه العلوم في التحليل المكاني لتقدم نتاجا جديدا فجغرافية السكان هي نتاج المكان وعلم الانثربولوجي والجيموفولوجي هو نتاج المكان وعلم الفيزياء والكيمياء والمناخ هو نتاج المكان وعلم الارصاد الجوية وهكذا وان نجاح الجغرافية في ايجاد مصطلحات خاصة بها مثل التباين المكاني والتوزيع الجغرافي ونجاحه في تطويع مصطلحات اخرى مثل مصطلح القوة الذي له معنى خاص يختلف عن العلوم الاخرى هو دليل على ان هذا العلم قد تمكن من ايجاد شخصية مستقلة بين العلوم حيث يرى  همبولدت ان الجغرافية ذات وجهة نظر مختلفة عن جميع العلوم الاخرى المعنية بدراسة الطبيعة فالعلوم الطبيعية والبايولوجية تدرس اشكال وبناء وعمليات الحيوان الفردية والنباتات والاشياء الجامدة او المتحجرات (الحفريات )وتحاول ان تنظمها في رتب وعوائل حسب تناظراتها الداخلية اما الجغرافيا فتهتم بهذه الاشياء في تواجدها وارتباطها مع بعضها في مساحة معينة هي المكان اي ان العلوم الطبيعية تصنف الاشياء نوعيا اما الجغرافيا فتصنفها مكانيا  فيما يرى ريتر ان الجغرافيا ليست وصف الارض بل علم الارض فهي لاتقوم بجمع ووصف للمعلومات والحقائق لكنها تحاول ان ترد هذه المعلومات والحقائق الى اصولها الجغرافية وتبرز الاختلافات الاقليمية وبالتالي ابراز شخصية الاقليم.

ويمكن القول ان الاختلاف لم يكن حول جوهر المعرفة الجغرافية لكن كان في طريقة طرح الجغرافية وانتاجها الذي يعود الى اختلاف البيئات والثقافات أي تاثر الانسان بالبيئة المحيطة به وهو ماكان واضحا في اختلاف طريقة تفكير سكان بلاد وادي الرافدين وسكان مصر القديمة اما في العصر الحديث للانسان فقد اهتم الالمان بالمجال الحيوي وتوسيع رقعة الارض وفي الوقت عينه فان تاثر لابلاش بالفلسفة التنويرية دفعه باتجاه طرح اراءه في الامكانية  وكان النموذج السوفيتي (الشيوعي) مهتما بالجغرافية الاقتصادية واكد على اهمية المكاسب التي توفرها اعادة التوزيعات المكانية والنشاطات الاقتصادية [8] .

 


 

 

 

 

 



-[1] - يمنى طريف خولي ،فلسفة العلم في القرن العشرين ،الاصول الحصاد الافاق المستقبلية ،سلسة عالم المعرفة العدد 264 ديسمبر 200م ،ص10.

-ابراهيم علي جمول ،نظرية المعرفة العلمية بين المنهج والتطبيق وزارة الثقافة الهيئة العامة السورية للكتاب ،دمشق 2011م ص 6-.7[2]

[3] - وهيب ابي فاضل ، الموسوعة الكبرى لتاريخ الشعوب وحضارتها ، الحضارة الرومانية – البيزنطينية المسيحية وانتشارها الجزء السابع – الجزء الثامن مركز الشرق الاوسط الثقافي بيروت الطبعة الاولى ص 192-193.

[4] - يمنى طريف خولي ،فلسفة العلم في القرن العشرين ،الاصول الحصاد الافاق المستقبلية ،سلسة عالم المعرفة العدد 264 ديسمبر 200م ،ص73.

[5] - يمنى طريف خولي ،فلسفة العلم في القرن العشرين ،الاصول الحصاد الافاق المستقبلية ،سلسة عالم المعرفة العدد 264 ديسمبر 200م ،ص100

-[6] - يمنى طريف خولي ،فلسفة العلم في القرن العشرين ،الاصول الحصاد الافاق المستقبلية ،سلسة عالم المعرفة العدد 264 ديسمبر 200م ،ص120

[7] -محمود توفيق محمود ، الجغرافيا السياسية ومجالها ، رسائل جغرافية  سلسلة علمية يصدرها قسم الجغرافية جامعة الكويت والجمعية الجغرافية الكويتية العدد 120 1988 ص 11.

قرن من التطور الجغرافي ص12[8]


اطبع هذه الصفحة
الاستاذ الدكتور فراس عبد الجبار الربيعي

الاستاذ الدكتور فراس عبد الجبار الربيعي

يتم التشغيل بواسطة Blogger.